كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيعجز أحدكم أن يكتسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكتسب كل يوم ألف حسنة قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة» وفي غير رواية مسلم ويحط بغير ألف، ولما كان الإنسان عند الإصباح يخرج من سنة النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم أتبعه الأحياء والإماتة حقيقة بقوله تعالى: {يخرج الحيّ} كالإنسان والطائر {من الميت} كالنطفة والبيضة {ويخرج الميت} كالبيضة والنطفة {من الحيّ} على عكس ذلك، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس، وقيل: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن {ويحيي الأرض} أي: بالمطر وإخراج النبات {بعد موتها} أي: يبسها {وكذلك} أي: ومثل هذا الإخراج {تخرجون} بأيسر أمر من الأرض بعد تفرّق أجسامكم فيها أحياء للبعث والحساب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي الميت بكسر الياء المشددة، والباقون بالسكون، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بفتح التاء قبل الخاء وضم الراء على البناء للفاعل، والباقون بضمّ التاء وفتح الراء على البناء للمفعول.
{ومن آياته} أي: ومن جملة علامات توحيده وكمال قدرته {أن خلقكم} أي: أصلكم وهو آدم عليه السلام {من تراب} لم يكن له أصلًا اتصاف ما بحياة، أو أنه خلقكم من نطفة، والنطفة من الغذاء، والغداء إنما يتولد من الماء والتراب {ثم} أي: بعد إخراجكم منه {إذا أنتم بشر تنتشرون} في الأرض كقوله تعالى: {وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء}.
تنبيه:
الترتيب والمهلة هاهنا ظاهران، فإنهم يصيرون بشرًا بعد أطوار كثيرة، وتنتشرون حال. وإذا هي الفجائية إلا أنّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء؛ لأنها تقتضي التعقيب. ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي: بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في موضع آخر من كونها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا مجردًا ثم عظمًا مكسوًا لحمًا فاجأ البشرية والانتشار.
{ومن آياته} أي: على ذلك {أن خلق لكم} أي: لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد وفي تقديم الجار وهو قوله تعالى: {من أنفسكم} أي: جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام {أزواجا} إناثًا هن شفع لكم دلالة ظاهرة على حرمة التزّوج من غير الجنس كالجن، قال البقاعي: والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل أي: فخلق حواء من ضلع آدم {لتسكنوا} مائلين {إليها} بالشهوة والألفة من قولهم: سكن إليه إذا مال وانقطع واطمأن إليه، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها، قال ابن عادل: والصحيح أنّ المراد من جنسكم كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}.
ويدل عليه قوله تعالى: {لتسكنوا إليها} يعني أنّ الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي: لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه. ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الإلفة قال تعالى: {وجعل} أي: صير بسبب الخلق على هذه الصفة {بينكم مودة} أي: معنى من المعاني يوجب أن لا يحب أحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه {ورحمة} أي: معنى يحمل كُلاّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ودفع الضر، وقيل: المودّة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد تمسكًا بقوله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} (مريم: 2) وقوله تعالى: {ورحمة منا} (مريم: 21) {إن في ذلك} أي: الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع {لآيات} أي: دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته {لقوم يتفكرون} أي: يستعملون أفكارهم على القوانين المحرّرة ويجتهدون في ذلك فيعلمون ما في ذلك من الحكم، ولما بين تعالى دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق بقوله تعالى: {ومن آياته} أي: الدالة على ذلك {خلق السموات} على علوها وإحكامها {والأرض} على اتساعها وإتقانها، وقدّم السماء على الأرض لأنّ السماء كالذكر لها، ولما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بقوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم} أي: لغاتكم من العربية والعجمية وغيرهما، ونغماتكم وهيآتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ولا شدّة ولا رخاوة ولا لكنة ولا فصاحة ولا غير ذلك من صفات النطق وأشكاله وأنتم من نفس واحدة {و} اختلاف {ألوانكم} من أبيض وأسود وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد وهو آدم عليه السلام، والحكمة في ذلك: أنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور، وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز بين كل واحد بشكله وحليته وصورته، ولو اتفقت الصور والأصوات وتشاكلت وكانت ضربًا واحدًا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية فيروك الخطأ في التمييز بينهما، فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وتفرعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله تعالى مختلفون متفاوتون، ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال: {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه {لآيات} أي: دلالات واضحات جدًا على وحدانيته تعالى: {للعالمين} أي: ذوي العقول والعلم لا يختص به صنف منهم دون صنف من جنّ ولا أنس ولا غيرهم، فهذا هو حكمة قوله تعالى هنا {للعالمين} وفيما تقدّم بقوله تعالى: {لقوم يتفكرون}.
وقرأ حفص وحده بكسر اللام، ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلبًا للرزق كما قال تعالى: {ومن آياته} الدالة على القدرة والعلم {منامكم} أي: نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعًا {بالليل والنهار} قيلولة {وابتغاؤكم من فضله} أي: منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيرًا ما يكسب الإنسان بالليل، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعارًا بأنّ كلًا من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى: {وجعلنا الليل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا}.
وقوله تعالى: {وجعلنا آية النهار مبصرة}.
ويكون التقدير هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله. وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه. ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}.
وقوله تعالى: {ولتبتغوا من فضله} تنبيه: قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل {لآيات} عديدة على القدرة والعلم لاسيما البعث {لقوم يسمعون} أي: من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة.
تنبيه:
قال هنا {آيات لقوم يسمعون} وقال تعالى من قبل {لقوم يتفكرون} وقال تعالى: {للعالمين} لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى، فلم يقل آيات للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة، فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه، وأما قوله تعالى: {لقوم يتفكرون} فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال: {لقوم يسمعون} ويجعلون بالهم من كلام المرشد، ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظيم قدرته {يريكم البرق} أي: إراءتكم له على هيئآت وكيفيات طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى: {خوفًا} أي: للإخافة من الصواعق المحرقة {وطمعًا} أي: وللإطماع في المياه العذبة {وينزل من السماء ماء} أي: الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {فيحيي به} أي: بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره {الأرض} أي: بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان {بعد موتها} أي: يبسها {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم العالي القدر {لآيات} لاسيما على القدرة على البعث {لقوم يعقلون} أي: يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع.
تنبيه:
كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضًا أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب.
واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا {آيات لقوم يعقلون} وفيما تقدم {لقوم يتفكرون}؟
أجيب: بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمرًا عاديًا مطردًا قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف، والبرق والمطر ليس أمرًا مطردًا غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة، وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قويًا وتارة يكون ضعيفًا، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكرًا تامًا، ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى: {ومن آياته} أي: على تمام القدرة وكمال الحكمة {أن تقوم السماء والأرض بأمره} قال ابن مسعود، قامتا على غير عمد بأمره أي: بإرادته، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم، فإنّ الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس.
تنبيه:
ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى: {خلقكم} {وخلق لكم} واستدل بخلق الزوجين، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى: {خلق السموات والأرض}.
ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام {بلى ولكن ليطمئن قلبي}.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى هنا {ومن آياته أن تقوم}.
وقال تعالى قبله {ومن آياته يريكم البرق}.
ولم يقل أن يريكم ليصير كالمصدر بأن؟
أجيب: بأنّ القيام لما كان غير معتبر أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية، فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر ست دلائل وذكر في أربع منها {إنّ في ذلك لآيات}.
ولم يذكر في الأوّل وهو قوله تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب} ولا في الآخر وهو قوله: {من آياته أن تقوم السماء والأرض}؟
أجيب: عن ذلك: أما عن الأوّل فلأنّ قوله بعده {ومن آياته أن خلق لكم} أيضًا دليل الأنفس فخلق الأنفس، وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدّم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد، فلما قال في الثانية إنّ في ذلك لآيات كان عائدًا إليهما، وأمّا في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهورها، فلما كان في أوّل الأمر ظاهرًا ففي آخر الأمر بعد سرد الأدلة يكون أظهر فلم يميز أحدًا في ذلك عن الآخر، ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة بقوله تعالى: {ثم إذا دعاكم} وأشار إلى هوان ذلك القول عنده بقوله عز وجل: {دعوة} أي: واحدة {من الأرض} بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور فيها فيقول: أيها الموتى اخرجوا {إذا أنتم تخرجون} أي: منها أحياء بعد اضمحلالكم بالموت والبلا فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال تعالى: {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}.
فإن قيل: بم يتعلق من الأرض بالفعل أم بالمصدر؟
أجيب: بهيهات إذا جاء نهر الله وهو الفعل بطل نهر معقل وهو المصدر، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه. فإن قيل: ما الفرق بين إذا وإذا؟
أجيب: بأنّ الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط، ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
تنبيه:
قال هاهنا: إذا أنتم تخرجون وقال تعالى في خلق الإنسان أوّلًا ثم إذا أنتم بشر، تنتشرون لأنّ هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلًا للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأمّا في الإعادة فلا يكون تدريج وتراخ بل يكون بدء خروج فلم يقل هاهنا ثم، ولما ذكر تعالى الآيات التي تدلّ على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأوّل أشار إليهما بقوله تعالى: {وله من في السموات والأرض} ملكًا وخلقًا {كل له قانتون} قال ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة، وقال الكلبي: هذا خاص بمن كان منهم مطيعًا، ونفس السموات والأرضين له وملكه فكل له منقادون، فلا شريك له أصلًا ثم ذكر المدلول الآخر بقوله تعالى: {وهو الذي يبدؤ الخلق} أي: على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال: {ثم يعيده} أي: بعد الموت للبعث. وفي قوله تعالى: {وهو أهون عليه} قولان أحدهما: أنها للتفضيل على بابها، وعلى هذا يقال: كيف يتصوّر التفضيل والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حدّ سواء؟ وفي ذلك أجوبة أحدها: إنّ ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أنّ إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالبًا وإن كان هذا منتفيًا عن الباري سبحانه وتعالى، فخوطبوا بحسب ما ألفوه. ثانيها: أنّ الضمير في عليه ليس عائدًا على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي: والعود أهون على الخلق أي: أسرع؛ لأنّ البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنسانًا، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل: وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالًا، والمعنى: يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم يعني: أن يقوموا نطفًا ثم علقًا ثم مضغًا إلى أن يصيروا رجالًا ونساء، وهي رواية الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس. ثالثها: أنّ الضمير في عليه يعود على المخلوق بمعنى: والإعادة أهون على المخلوق أي: إعادته شيئًا بعدما أنشأه، هذا في عرف المخلوقين فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى والثاني: أنّ أهون ليس للتفضيل بل هي صيغة بمعنى هين كقولهم: الله أكبر أي: كبير، وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس، وقد يجئ أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق:
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعز وأطول

أي: عزيزة طويلة وعود الضمير على الباري تعالى أولى ليوافق الضمير في قوله تعالى: {وله المثل} أي: الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامّة والحكمة الشاملة. قال ابن عباس: هو أنه ليس كمثله شيء، وقال قتادة: هو أنه لا إله إلا هو، قال البيضاوي: ومن فسره بلا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية {الأعلى} أي: الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه، ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال: {في السموات والأرض} أي: اللتين خلقهما ولم يستعصيا عليه فكيف يستعصي عليه شيء فيهما {وهو} أي: وحده {العزيز} أي: الذي إذا أراد شيئًا كان له في غاية الانقياد كائنًا ما كان {الحكيم} أي: الذي إذا أراد شيئًا أتقنه فلم يقدر غيره إلى التوصل إلى بعض شيء منه، ولا تتمّ حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث بل هي الحكمة العظمى ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير. ولما أبان من هذا أنه تعالى المنفرد بالملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله تعالى: {ضرب} أي: جعل {لكم} بحكمته أيها المشركون في أمر الأصنام وبيان الإبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير {مثلًا} مبتدأ {من أنفسكم} التي هي أقرب الأشياء إليكم، ثم بين المثل بقوله تعالى: {هل لكم} أي: يا من عبدوا مع الله غيره {مما} أي: من بعض ما {ملكت أيمانكم} أي: من العبيد والإماء الذين هم بشر مثلكم وعمم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله تعالى: {من شركاء} أي: في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء {في ما رزقناكم} من الأموال وغيرها مع ضعف ملككم فيه فائدة {في} مقطوعة عن {ما} {فأنتم} أي: يا معاشر الأحرار والعبيد {فيه} أي: الشيء الذي وقعت فيه الشركة {سواء} فيكون أنتم وهم شركاء يتصرّفون فيه كتصرّفكم مع أنهم بشر مثلكم.